الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.تفسير الآية رقم (18): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما كانت الجملتان من الاحتباك، فأفادتا بما ذكر وما دل عليه المذكور مما حذف أنه تعالى غالب على أمره، قال مصرحًا بذلك: {وهو القاهر} أي الذي يعمل مراده كله ويمنع غيره مراده إن شاء، وصور قهره وحققه لتمكن الغلبة بقوله: {فوق عباده} وكل ما سواه عبد؛ ولما كان في القهر ما يكون مذمومًا، نفاه بقوله: {وهو} أي وحده {الحكيم} فلا يوصل أثر القهر بإيقاع المكروه إلا لمستحق، وأتم المعنى بقوله: {الخبير} أي بما يستحق كل شيء، فتمت الأدلة على عظيم سلطانه وأنه لا فاعل غيره. اهـ. .من أقوال المفسرين: .قال الفخر: قلنا: ذلك عين الذات لا صفة قائمة بالذات لأن الصفة القائمة بالذات مفتقرة إلى الذات والمفتقر إلى الذات مفتقر إلى الغير فيكون ممكنًا لذاته واجبًا بغيره فيلزم حصول وجوب قبل الوجوب وذلك محال فثبت أنه عين الذات، وثبت أن الصفات التي هي الكمالات حقيقتها هي القدرة والعلم فقوله: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} إشارة إلى كمال القدرة، وقوله: {وَهُوَ الحكيم الخبير} إشارة إلى كمال العلم. وقوله: {وَهُوَ القاهر} يفيد الحصر ومعناه أنه لا موصوف بكمال القدرة وكمال العلم إلا الحق سبحانه وعند هذا يظهر أنه لا كامل إلا هو، وكل من سواه فهو ناقص. إذا عرفت هذا فنقول: أما دلالة كونه قاهرًا على القدرة فلأنا بينا أن ما عدا الحق سبحانه ممكن بالوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه وتكوينه وإيجاده وإبداعه فيكون في الحقيقة هو الذي قهر الممكنات تارة في طرف ترجيح الوجود على العدم، وتارة في طرف ترجيح العدم على الوجود ويدخل في هذا الباب كونه قاهرًا لهم بالموت والفقر والاذلال ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله: {قُلِ اللهم مالك الملك} [آل عمران: 26] إلى آخر الآية. وأما كونه حكيمًا، فلا يمكن حمله هاهنا على العلم لأن الخبير إشارة إلى العلم فيلزم التكرار أنه لا يجوز، فوجب حمله على كونه محكمًا في أفعاله بمعنى أن أفعاله تكون محكمة متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد والخبير هو العالم بالشيء المروي. قال الواحدي: وتأويله أنه العالم بما يصح أن يخبر به قال: والخبر علمك بالشيء تقول: لي به خبر أي علم وأصله من الخبر لأنه طريق من طرق العلم. اهـ. .قال الثعلبي: {وَهُوَ الحكيم} في أمره {الخبير} بما جاء من عباده. اهـ. .قال الماوردي: أحدهما: أن معناه القاهر لعباده، وفوق صلة زائدة. والثاني: أنه بقهره لعباده مستعلٍ عليهم، فكان قوله فوق مستعملًا على حقيقته كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيدِيهِم} [الفتح: 10] لأنها أعلى قوة. ويحتمل ثالثًا: وهو القاهر فوق قهر عباده، لأن قهره فوق كل قهر. وفي هذا القهر وجهان: أحدهما: أنه إيجاد المعدوم. والثاني: أنه لا راد لأقداره ولا صَادَّ عن اختياره. اهـ. .قال ابن عطية: قال القاضي أبو محمد: وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضًا والأول عندي أصوب: والعباد بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد أما أنا نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع أو كرامة، وورود لفظ العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم، ألا ترى قول امرئ القيس: [السريع] ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا وكذلك الذين سموا العباد لا يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك، وكذلك قول حمزة رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي، لا يستقيم فيه عباد، و{الحكيم} بمعنى المحكم، و{الخبير} دالة على مبالغة العلم، وهما وصفان مناسبان لنمط الآية. اهـ. .قال ابن الجوزي: والمعنى: أنه قهر الخلق فصرّفهم على ما أراد طوعًا وكرهًا؛ فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التسخير والتذليل. اهـ. .قال أبو حيان: فقال بعضهم: هو فوقهم بالإيجاد والإعدام. وقال بعضهم: هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم. وقال الزمخشري: تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله: {وإنا فوقهم قاهرون} انتهى. والعرب تستعمل {فوق} إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله: {يد الله فوق أيديهم} وقوله: {وفوق كل ذي علم عليم} وقال النابغة الجعدي: يريد علو الرتبة والمنزلة. وقال أبو عبد الله الرازي: صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله: {وهو القاهر فوق عباده} إشارة إلى كمال القدرة {وهو الحكيم الخبير} إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهرًا فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله: {قل اللهم مالك الملك} الآية. والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم، لأن {الخبير} إشارة إلى العلم فيلزم التكرار؛ انتهى، وفيه بعض اختصار وتلخيص. وقيل: {الحكيم} العالم و{الخبير} أيضًا العالم ذكره تأكيدًا و{فوق} منصوب على الظرف إما معمولًا للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما: أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال: وهو القاهر غالبًا فوق عباده وقاله أبو البقاء، وقدره مستعليًا أو غالبًا وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلًا من القاهر. قال ابن عطية: ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطًا مطولًا ورددنا عليه. اهـ. .قال القرطبي: وقُهر غُلب. ومعنى {فَوْقَ عِبَادِهِ} فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم؛ أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان؛ كما تقول: السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة. وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد. {وَهُوَ الحكيم} في أمره {الخبير} بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألاَّ يُشرَكَ به. اهـ. .قال ابن كثير: {وَهُوَ الْحَكِيمُ} أي: في جميع ما يفعله {الْخَبِيرُ} بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق. اهـ. .قال الخازن: وقال ابن جرير الطبري: معنى القاهر المتعبد خلقه العالي عليهم وإنما قال فوق عباده لأنه تعالى وصف نفسه بقهره إياهم ومن صفة كل قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه فمعنى الكلام إذًا والله الغالب عباده المذلل لهم العالي عليهم بتذليله إياهم فهو فوقهم بقهره إياهم وهم دونه. وقيل: فوق عباده هو صفة الاستعلاء الذي تفرد به الله عز وجل: {وهو الحكيم} يعني في أمره وتدبير عباده {الخبير} يعني بأعمالهم وما يصلحهم. اهـ. .قال أبو السعود: .قال ابن عاشور: فالآية الأولى أبطلت ذلك بنفي أن يكون للأصنام تصرّف في أحوال المخلوقات، وهذه الآية أبطلت أن يكون غير الله قاهرًا على أحد أو خبيرًا أو عالمًا بإعطاء كل مخلوق ما يناسبه، ولا جرم أنّ الإله تجب له القدرة والعلم، وهما جماع صفات الكمال، كما تجب له صفات الأفعال من نفع وضرّ وإحياء وإماتة، وهي تعلّقات للقدرة أطلق عليها اسم الصفات عند غير الأشعري نظرًا للعرف، وأدخلها الأشعري في صفة القدرة لأنّها تعلّقات لها، وهو التحقيق. ولذلك تتنزّل هذه الآية من التي قبلها منزلة التعميم بعد التخصيص لأنّ التي قبلها ذكرت كمال تصرّفه في المخلوقات وجاءت به في قالب تثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم كما قدّمنا، وهذه الآية أوعت قدرته على كلّ شيء وعلمه بكلّ شيء، وذلك أصل جميع الفعل والصنع. والقاهر الغالب المُكرِه الذي لا ينفلت من قدرته من عُدّي إليه فعل القهر. وقد أفاد تعريف الجزأين القصر، أي لا قاهر إلاّ هو، لأنّ قهر الله تعالى هو القهر الحقيقي الذي لا يجد المقهور منه ملاذًا، لأنّه قهر بأسباب لا يستطيع أحد خلق ما يدافعها. وممّا يشاهد منها دومًا النوم وكذلك الموتُ. سبحان من قهر العباد بالموت. و{فوق} ظرف متعلَّق بِ {القاهر}، وهو استعارة تمثيلية لحالة القاهر بأنَّه كالذي يأخذ المغلوب من أعلاه فلا يجد معالجة ولا حراكًا.
|